إعلان سمرقند وإعادة التوازن للعلاقات الدولية (اتفاقيات أمنية واقتصادية)

خرج إعلان سمرقند، من قمة منظمة شنغهاي للتعاون في أوزبكستان بمدينة سمرقند يومي 15 و16 سبتمبر 2022 وتضمن اتفاقا “على خطة عمل حتى نهاية عام 2027 لتنفيذ معاهدة حسن الجوار والصداقة والتعاون طويلة الأجل للدول الأعضاء في المنظمة.

اعتمدوا أيضا حزمة من الوثائق. مع تأكيد الزعماء على رغبتهم في الحفاظ على استقرار وموثوقية سلاسل التوريد الولية، واستعدادهم لتعزيز نمو التجارة المتبادلة، وشددوا في الوقت نفسه على الاثار المدمرة للتدابير الاقتصادية الأحادية الجانب والتي تتعارض مع لمبادئ والقواعد العامة لمنظمة التجارة العالمية، وعلى النظام التجاري متعدد الأطراف” (أحمد السيد، المرصد المصري، 18/09/2022).

ويبدو جليا أن هذه القمة، جاءت في سياق دولي متسم بالتطور السريع وتحولات واسعة النطاق، كما ورد في الإعلان نفسه؛ بحيث يجمع أغلب الباحثين والمهتمين بالقضايا الدولية والتفاعلات الجيوسياسية الراهنة، على كون العالم يجتاز مرحلة حرجة جدا، يمكن ان تفضي الى مشاهد مستقبلية كارثية؛ بل تطورات راهنة من شأنها قلب الموازين الدولية والزج بالعالم في حرب طاحنة كبرى. فهناك الحرب الروسية-الأوكرانية والصراع الجيواقتصادي الأمريكي-الصيني، وأزمة الطاقة وارتفاع أسعار المواد الغذائية مما ينذر بأزمة غذاء عالمية وتكاثر الاحتجاجات الاجتماعية في أوروبا ومناطق أخرى.

وهناك توجس يعرب عنه عدة خبراء في الدراسات الاستراتيجية، يكمن في احتمال اندلاع حرب نووية شاملة أو محدودة، بسبب دعم الغرب لأوكرانيا بالأسلحة والأموال والجنود وتكنولوجيا التجسس وأحدث أنظمة الدفاع والهجوم؛ بل أصبحت أوكرانيا مجالا لتجريب آخر الابتكارات الغربية في مجال الأسلحة الفتاكة. وهذا يجعل روسيا في وضع استنفار شامل والتلويح باللجوء إلى السلاح النووي وأسلحة الليزر الجديدة، القادرة على قلب الأوضاع الجيوستراتيجية (Diplomatie L’Etat des conflits dans le monde, 2023).

بالفعل فإن الباحث بسكال بونيفاس في كتابه “السنة الإستراتيجية، 2023″، يؤكد مع جماعة من الباحثين، على عودة الحرب الى أوروبا وبتداعيات جديدة، لن تكون قصيرة المدى، كما يسأل عن طبيعة مآلات العالم في سياق هذه الصراعات الجديدة، وهل ستتوجه نحو تقسيم جديد للعالم؟ وهل لازال هناك مجال أو هامش لتدبير هذه الأزمات المتكاثرة؟

وتعتبر قمة شنغهاي الأخيرة، محاولة لمطارحة مختلف التحديات العالمية الجديدة ولتأكيد دور الصين وروسيا بالخصوص والهند وبقية أعضاء المنظمة، على ضرورة إعادة النظر في هندسة النظام الدولي الراهن، والاتجاه نحو صياغة قواعد جديدة لعالم متعدد الأقطاب.

والواقع أن “إعلان سمرقند”، هو دعوة صريحة لنظام دولي عادل؛ بحيث تضمن الإعلان، الإشارة إلى ضرورة بلورة منظور تشاركي “للمصير المشترك للبشرية”، وذلك تنبيه لعدم السماح لأمريكا والغرب “بالاستحواذ” على مستقبل العالم وتشكيله بعيدا عن مشاركة كافة الشعوب. لذلك تطرق “إعلان سمرقند” إلى حق الشعوب في اختيار الصيغة التي تناسبها في مجال التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

واعتبر “اعلان سمرقند”، قضية أفغانستان ذات أهمية كبرى، للأمن الاسيوي، لذا تعين تسوية الوضع الافغاني بشكل سريع وبطرق دبلوماسية وهذا ينطبق على باقي النزاعات.

وتضمن “إعلان سمرقند” كذلك إدانة للإرهاب وتنظيماته وألح على تعاون دول منظمة شنغهاي لمواجهة الجماعات الإرهابية، ورفض مبدأ التدخل في شؤون الدول بدعوى محاربة الإرهاب. ومن أجل توحيد موقف دول منظمة شنغهاي من الحركات الإرهابية، أشار “اعلان سمرقند” الى تطوير مقاربات مشتركة لقائمة واحدة من المنظمات الإرهابية والمتطرفة (موقع الشروق، 16 سبتمبر2022).

وانتقد “اعلان سمرقند” الأسلوب الأحادي في اعتماد العقوبات الاقتصادية، حيث يتعين اعتماد آلية مجلس الأمن في ذلك، لذا يؤكد أعضاء منظمة شنغهاي على استعدادهم للتعاون مع الأمم المتحدة والتزام الشرعية الامية.

وفي اطار التعاون في مجال الدفاع، نص أعضاء منظمة شنغهاي على التعاون فيما بينهم وطالبوا بالحد من انتشار الأسلحة النووية البيولوجية ورفض استعمال تكنولوجيا المعلومات في المجال العسكري وعدم السماح بالسباق العسكري في الفضاء.

أما في مجال التبادل التجاري، فقد تضمن “إعلان سمرقند” نقدا ورفضا لنهج الحمائية وعرقلة المبادلات التجارية، وخصوصا أن الصين تواجه مشاكل عديدة مع بعض البلدان الغربية مثل استراليا في هذا المجال. وطالب “اعلان سمرقند” التدرج في اعتماد العملات الوطنية في التجارة الدولية، مما يعني “شن الحرب” على هيمنة الدولار في التجارة الدولية والتحضير لنهايته.

ويبدو جيدا أن أعضاء منظمة شنغهاي لهم رغبة جامحة في إعادة النظر في منظمة التجارة الدولية، والتطلع إلى إصلاحها وصياغة نظام تجاري جديد، تراعي فيه مصالح الدول غير الغربية كذلك. وتتوخى منظمة شنغهاي، تأسيس بنك التنمية وصندوق للتنمية كذلك، يستجيب لتطلعات اعضاء المنظمة.

وأشار كذلك “اعلان سمرقند” الى ضرورة الاهتمام بالشركات الناشئة وتشجيع الابداع والابتكار في كافة المجالات وخصوصا في التكنولوجيا وتقليص الفجوة الرقمية (سي إن إن عربية 17 سبتمبر 2022).

أولت منظمة شنغهاي اهتماما كبيرا، لموضوع الأمن الغذائي والحد من الفقر، وكذلك الاتفاق على مواجهة تداعيات كورونا والاوبئة وصياغة منظور مشترك للأمن الصحي. كما أجمع قادة منظمة شنغهاي على محاربة أشكال الفساد والجريمة؛ من اجل ترسيخ الأمن وتمكين شعوب المنظمة من التنقل بحربه وسلامة، اذ اعتبر “اعلان سمرقند” سنة 2023، سنة للسياحة. وكانت هناك نقط أخرى في “اعلان سمرقند”، طرحت فيها مواضيع مرتبطة بالعلوم والفنون والثقافة؛ إذ الهدف هو جعل فضاء منظمة شنغهاي للتعاون، فضاءا للتفاعل الحضاري والثقافي والتعاون الأمني، والسياسي، والاقتصادي، والتجاري.

ويذهب الخبراء إلى اعتبار منظمة شنغهاي للتعاون، قادرة على أن “تتحول لاحقا الى ند حقيقي للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في حال تطورت آليات عملها التي لا تزال، وهذه ربما نقطة ضعفها، تعتمد على الطوعية في تنفيذ القرارات وليس الزامية ما تقره. وتطرح هذه الطوعية كذلك مسألة القدرة على ضبط الأمن الحدودي بين دولها نفسها، خصوصا أن القمة اجتمعت وسط اشتباكات حدودية وسقوط قتلى بين عضوين فيها هما طاجكستان وقرغيزيا كما بين عضوين شريكين في الحوار هما أرمينا وأذربيجان” (محمد نور الدين، الخليج إماراتية، 24 سبتمبر 2022).

واعتبرت قناة فرانس 24، بأن قمة منظمة شنغهاي للتعاون، تم فيها الترويج من طرف روسيا والصين، “بمشاركة قادة الدول الأعضاء أي الهند وباكستان وأربع دول في آسيا الوسطى إضافة الى رئيسي ايران وتركيا، لنظام دولي جديد يهدف إلى تحدي النفوذ الغربي عبر حشد قادة المنطقة في هذا التجمع الذي تأسس عام 2001 وبات بمثابة بديل “للمنظمات المتمركزة حول الغرب” “(فرانس 24، 17 سبتمبر 2022).

لاشك أن ” اعلان سمرقند”، هو تجديد لخطاب دول منظمة شنغهاي للتعاون وخصوصا الصين وروسيا، حول تحيزات النظام العالمي ونقد للمركزية الغربية ودعوة الى بناء علاقات دولية عادلة. اذ جاء في البيان الختامي لقمة سمرقند، أن الدول الأعضاء في المنظمة “تلتزم بإجراء تقسيمات دقيقة فيما يتعلق بجدول الاعمال الدولي الحالي، وتدافع عن نظام عالمي أكثر عدلا”، كما قال الرئيس الصيني في كلمته أثناء القمة بأن الوقت حان لإعادة تشكيل النظام الدولي و”التخلي عن المعادلات الصفرية والسياسات القائمة على تشكيل كتل”؛ ودعا كافة رؤساء في العالم الى “العمل معا لدعم تنمية النظام الدولي في اتجاه أكثر انصافا وعقلانية”. وأكد هذا المنحى الرئيسي بوتين حينما قال بأن “روسيا والصين تدافعان بشكل مشترك عن إقامة نظام عالمي عادل وديموقراطي ومتعدد الأقطاب”، وألح على كون “النظام أحادى القطب في العالم يجري استبداله” (وكالة الاناضول، 20 سبتمبر 2022).

ويعتبر المراقبون من الغرب، بأن “اعلان سمرقند” هو تكريس لنهج ضد الغرب، واعتبار منظمة شنغهاي للتعاون، بمثابة ناتو الشرق او جبهة في مواجهة الغرب، )موقع قناة دويتشه فيلا)، وبالرغم من وجود برامج للتدريب العسكري المشترك وتبادل للخبرات، فإن المنظمة ليست شبهة للناتو، وهذا مجرد توجس غربي. لكن التوسع الذي تعرفه منظمة شنغهاي للتعاون من شانه أن يجعل أمريكا والغرب معا، يتخوفان من التحولات المستقبلية للمنظمة.

فقد استطاعت منظمة شنغهاي للتعاون، بعد تأسيسها من طرف الصين وروسيا وطاجاكستان وكازاخستان وقد قرغيزستان، سنة 2001، أن تضم سنة 2017، كل من الهند وباكستان، وفي 2021 تم قبول العضوية الكاملة لإيران وتمت المصادفة على ذلك في سبتمبر 2022.

وهناك دول لها صفة مراقب مثل أفغانستان ومنغوليا تطمح في الحصول على العضوية الكاملة، و هناك “شركاء الحوار” مثل أرمينيا وأذربيجان وكمبوديا ونيبال وسريلانكا وتركيا، كما هناك دول تقدمت للحصول على صفة “شركاء الحوار” وهي مصر وقطر والسعودية والكويت والإمارات والبحرين. وبالرغم من هذا التوسع، فإن المنظمة لم تصل بعد الى مستوى الاتحاد الأوروبي أو الناتو، فهي لازالت تعتمد التنسيق والتشاور ولم ترق بعد الى مرتبة الاندماج المؤسساتي.

يلاحظ أحد الباحثين بأنه “رغم تصريحات “شي جين بينغ” و”بوتين” “ورئيسي “عن السعي نحو تغيير أو تعديل النظام الدولي، فإن هذه الدول مازالت تعمل تحت مظلة وقواعد وآليات وإجراءات ومؤسسات هذا النظام القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 وتحولاته بعد نهاية الحرب الباردة 1991 ويمكن أن تتعرض دولة مثل الصين لأضراربالغة اذا قررت العمل خارج هذه المنظومة التي حققت في إطارها صعودها السياسي والاقتصادي، وترتبط منظومتها الاقتصادية بالنظام الاقتصادي العالمي القائم، ولا تستطع الحفاظ على قوتها وصعودها اذا تم استهداف هذا الارتباط من جانب الولايات المتحدة وحلفائها” (عصام عبد الشافي، مباشر الجزيرة، 18 سبتمبر 2022).

وبالفعل فإن “اعلان سمرقند” هو بداية جريئة للإفصاح عن رغبته جامحة للتحرر من النظام الدولي القائم،  لكنه جاء في وقت حرج، هو حرب أوكرانيا وروسيا، ولا يمكن المجازفة بإقحام منظمة شنغهاي للتعاون في هذا الصراع، وهي في بداية تلمس طريقها وتأسيس لنهج يتوخى خلق توازن دولي والتمهيد للانتقال الى نظام متعدد الأقطاب قادر على إدارة الشأن الدولي بعقلانية وحكمة؛ وقادر على أطلاق حكامة دولية تشاركية.

مشاركة

المزيد من المقالات