من مارس/ آذار 2021 ولغاية الان ، تبدل التفاؤل في ليبيا بالاتفاق على تشكيل حكومة “الوحدة الوطنية”، إلى تشاؤم بمستقبل مجهول، لهذه الدولة، بعد أن تفاقم الانقسام والاصطفاف الداخلي، خصوصا مع تراجع الاهتمام الإقليمي بالملف، والانشغال الدولي بالأزمة الأوكرانية والهجوم الروسي، التي شغلت الولايات المتحدة والدول الأوروبية، عن النزول بقوة إلى الساحة الليبية.
هذا الانشغال نفسه، وتفاقم الخلاف بين روسيا والولايات المتحدة، أدى إلى عدم تسمية مبعوث أممي جديد، يساهم في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء، لاستكمال خريطة الطريق، الموصلة إلى الانتخابات كما كان مقررا، ما أدى إلى نهاية صلاحية حكومة “الوحدة الوطنية” برئاسة عبدالحميد الدبيبة، وتصويت البرلمان على “حكومة الاستقرار” البديلة، التي تم التوافق بين من لا يسير في فلك الدبيبة على إسنادها لفتحي باشاغا، ما أحدث انقساما حادا، أثمر جهازين تنفيذيين برأسين، لا يعترف كلاهما بالآخر، فيما يسيطر الأول على العاصمة طرابلس، بعد دخوله في تحالف مع المليشيات المسلحة، وبعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين المتطرفة، ويتخذ الثاني من سرت وسط البلاد، مقرا لحكومته. وتبذل المبعوثة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا جهودا على مستوى عواصم إقليمية، لجمع الليبيين، على قاعدة دستورية توافقية، للذهاب إلى انتخابات تشريعية ورئاسية تنهي الأزمة، وسط تقارب مبشر بين البرلمان و”المجلس الأعلى للدولة” (إخوان) الممثلان في جولات مشاورات جرت في تونس والقاهرة.
وبين انقسام داخلي حادّ، وتراجع واضح في زخم الاهتمام الدولي بالملف الليبي، يسير قطار التسوية في ليبيا على طريق غير سالك بما فيه الكفاية، ويكاد يرجع إلى مربعات يفترض ومحطات يفترض أن ليبيا تجاوزتها، لكن الواقع أن فرص التسوية ما تزال قائمة، والباب لم يوصد نهائيا أمام حلّ ينقذ ليبيا من الدخول في أتون حرب جديدة.
الدراسة التالية تبحث الوضع الحالي لليبيا وهي مقسمة بين حكومتين مجددا، وتسبر أغوار الأزمة الحالية، ومحطات الألم والأمل في هذا الملف على مدار سنة كاملة كانت حافلة بالتفاؤل، قبل أن ينشغل المجتمع الدولي بأزمة أخرى، ويعود الساسة الليبيون إلى الصراع على السلطة سيرتهم الأولى.
وذلك في المحاور التالية: المحور الأول- لماذا حكومتان في ليبيا؟ المحور الثاني- إلى أين وصلت الجهود الإقليمية والدولية للتسوية؟ المحور الثالث- آفاق التسوية المنتظرة؟ المحور الرابع- خلاصات واستنتاجات المحور الأول- لماذا حكومتان في ليبيا؟ في أكتوبر/تشرين أول من عام 2020، استبشر العالم خيرا، بوضع الحرب أوزارها في ليبيا، بعد اتفاق على وقف إطلاق النار، بعد مواجهات حامية الوطيس، في العاصمة طرابلس، تواجهت فيها فوهات المدافع، بين الجيش الليبي المتمركز في شرق ليبيا، ومليشيات تتبع لحكومة الوفاق وتتمركز في طرابلس ومصراتة، وبجهود إقليمية ودولية، اقتنع الأطراف بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، وقبول التسوية السياسية بديلا عن الحل بقوة السلاح. هذا التوافق أثمر في فبراير/ شباط 2021 اتفاقا سياسيا رعته الأمم المتحدة، التي أشرفت على “ملتقى الحوار السياسي” في جنيف السويسرية، الذي انتخب أعضاؤه من بين قوائم تضم مرشحين للحكومة وللمجلس الرئاسي، عبد الحميد الدبيبة رئيسا للحكومة، ومحمد المنفي رئيسا للمجلس الرئاسي، مع عضوين آخرين، وهكذا اتفق السياسيون الليبيون على شروط تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع بين إدارتين في طرابلس وطبرق، ليكون ذلك خطوة أخرى بعد اتفاق وقف إطلاق النار نحو الاستقرار الدائم.
[1] نالت “حكومة الوحدة الوطنية” برئاسة عبد الحميد الدبيبة، ثقة البرلمان المجتمع بأعضائه في الشرق والغرب في مدينة طبرق (شرق)، في إنجاز تاريخي أنهى وجود حكومتين آنذاك يترأس إحداهما فايز السراج في طرابلس، والأخرى عبد الله الثني في طبرق، وعد ذلك إنجازًا تاريخيًا، وانتقالا نادرا للسلطة بالتوافق، حمل لليبيين آمالا كبرى نحو انتخابات نزيهة توكل للحكومة الجديدة مهمة تنظيمها في أجل محدد ضمن خارطة طريق تحدد الاستحقاق النيابي والرئاسي في أجل أقصاه ديسمبر/كانون الأول من نفس العام.
وبعدما حانت اللحظة الحاسمة للانتخابات، وباشرت اللجنة المستقلة للانتخابات بتسجيل الناخبين، وقبول ملفات الترشح للرئاسة ولمقاعد مجلس النواب، وتتحد الموعد في 24 ديسمبر/ كانون الأول، لكن بدا أن الأمر عسير، لتعلن الهيئة “القوة القاهرة”، مبدية استحالة تنظيم الانتخابات، وتبعها البرلمان بتأكيد التأجيل عن اليوم الموعود.[2] هذا التعثر فتح الباب أمام الطعن في حكومة الدبيبة التي ثارت ثائرة معارضيها، ملوحين بفشلها في تنظيم الانتخابات، وانتهاء شرعيتها بعدم تنفيذ خارطة الطريق، إذ لم تشكل سوى لتنظيم الانتخابات، وليس لها مصدر شرعية غير البرلمان الذي منحها الثقة ونزعها منها.
[3] في ظل الوضع المتأزم، منح البرلمان الليبي الثقة لحكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، وهو وزير الداخلية السابق في حكومة السراج، وأحد المرشحين لرئاسة الحكومة في ملتقى الحوار السياسي، لكن الدبيبة رفض تسليم السلطة، بزعم أن صلاحية ولايته تمتد 18 شهرا من تاريخ انتخابه، وأن حكومته لن تسلم السلطة إلا لسلطة منتخبة، وهو ما يتعذر في الوقت الحالي.
[4] وهكذا أصبحت ليبيا مجددا بين حكومتين، تتنازعان السلطة، يساند مجلس النواب تلك التي يرأسها فتحي باشاغا، فيما يعتمد عبد الحميد الدبيبة على مليشيات مسلحة، إضافة إلى مساندة غير صريحة من الإخوان المسلمين، الذين يمثلهم في المؤسسات الدستورية، “المجلس الأعلى للدولة، برئاسة خالد المشري، الذي لم يعلن بشكل واضح الوقوف إلى جانب الدبيبة، فيما تراجع لاحقا عن دعم أبداه لباشاغا.
[5] هذا الخلاف كان يقود إلى العودة الاقتتال، بعدما حاول فتحي باشاغا دخول طرابلس، وهو ما واجهته المليشيات المسلحة الداعمة للدبيبة بقوة السلاح، حيث قتل أحد مرافقي رئيس “حكومة الاستقرار”، متأثرا بجروحه، ليخرج رئيس الحكومة الثانية من العاصمة لما قال إنه حقن للدماء.
[6] المحور الثاني- أين وصلت الجهود الإقليمية والدولية للتسوية؟ في أحدث إحاطة لها أمام مجلس الأمن الدولي بتاريخ 26 مايو/ أيار 2022، بشأن التطورات الأخيرة في ليبيا، لخصت روزماري ديكارلو، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام، الوضع في البلاد، في استمرار وقف إطلاق واستمرار المشاورات في ظل كثير من القضايا العالقة، مشيرة إلى جولة منتظرة من المشاورات في يونيو/ حزيران 2022 بهدف التوصل إلى توافق في الآراء لوضع اللمسات الأخيرة على الترتيبات الدستورية لإجراء الانتخابات -التي تأجلت من ديسمبر الماضي – في أقرب وقت ممكن[7]. تشير المسؤولة الأممية بذلك إلى المشاورات الجارية في العاصمة المصرية القاهرة، بين ممثلين عن مجلس النواب، والمجلس الأعلى للدولة، يناقشان في جولات بدأت في إبريل/ نيسان 2022، برعاية من المبعوثة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني، المسار الدستوري التوافقي، من نقاط عدة، تتمثل في الاتفاق على اللوائح الداخلية المنظمة لعمل اللجنة الدستورية، لوضع قاعدة دستورية توافقية، يمكن على أساسها تنظيم الاستحقاقات الانتخابية، بشكل توافقي.
[8] وتحمل المشاورات التي استضافتها أيضا تونس في وقت سابق، بصيص الأمل الوحيد حاليا، للوصول إلى تسوية سياسية عبر الحوار، بعيدا عن الحل العسكري، وهي فرصة ينتظر الفاعلون الإقليميون والدوليون إليها بكثير من الأمل، فيما لم يتعمق الاصطفاف الدولي حتى الآن بشكل واضح إلى جانب أي من الحكومتين، وهو ما يفهم على أنه تجنب لتعزيز الاستقطاب بين الفرقاء الليبيين، لإفساح المجال لوضع قاعدة دستورية توافقية، على أساسها يتم انتخاب رئيس للبلاد، وتكوين برلمان جديد، مهما كانت الجهة المشرفة عليها من الحكومتين؛ إذ في حالة التوافق، لن يكون من الصعب إيجاد آلية لتقاسم الإشراف بين السلطات الحاكمة في ليبيا. فما دام الخلاف بين الفرقاء لم يصل إلى صراع مباشر، فيبدو حتى الآن أن كلا من المعسكرات والجهات الأجنبية الراعية (التي حقق بعضها مؤخرًا تقاربات خاصة بها) غير راغبة في عودة الاقتتال الداخلي، حتى لو أن تلك الخلافات تؤثر على عائدات النفط، التي تمثل تقريبا مجمل الميزانية الحكومية وهي في الوقت الحالي في أيدي الحكومة المؤقتة في طرابلس بقيادة عبد الحميد الدبيبة، في حين بإمكان رئيس حكومة الاستقرار المنافسة برئاسة فتحي باشاغا، التأثيرات على إمدادات النفط بإغلاق جزء كبير من حقول الإنتاج في الشرق، ووقف تدفق الإيصالات إلى طرابلس، ستبقى ادعاءات الأحقية بالشرعية بين الحكومتين المتصارعتين، وخرائط الطريق المتضاربة، عائقا قويا دون إيجاد مخرج من الأزمة، ومعرقلا جديا لجهود الوساطة التي تدعمها الأمم المتحدة، وتؤيدها القوى الإقليمية والدولية[9]. سيما وأن القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، وروسيا وبعض الدول الأوروبية، منشغلة في واقع الأمر بالأزمة الأوكرانية، منذ انطلاق العملية العسكرية في 24 فبراير 2022، وما خلفه الهجوم الروسي من مخاوف لدى الأوروبيين، وحليفتهم واشنطن، جعل الأولوية في الوقت الحالي، لهذا الملف على حساب أزمة ليبيا، وإن كانت الأخيرة، قد يلفت إليها كورقة في سياق التسويات المتعلقة بحرب أوكرانيا، إذ تملك موسكو بعض التأثير على أطراف ليبية، يعادل نفس النفوذ لدى أمريكا، وبعض الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وألمانيا وإيطاليا. ورغم انشغالها في تعزيز أمنها، وحماية حدودها من قوات حلف شمال الأطلسي “الناتو”، لم تهمل موسكو التطورات في ليبيا، فقد سارعت وزارة الخارجية الروسية إلى الترحيب برئاسة فتحي باشاغا لحكومة الاستقرار، وأعربت عن أملها في أن يكون “قادرًا على توحيد المجتمع الليبي” وتوجيه ليبيا نحو الانتخابات الوطنية، وكان هذا البيان جديرًا بالملاحظة، حيث كانت روسيا أول قوة عظمى تؤيد اعتلاء باشاغا للسلطة[10]. ويفهم دعم روسيا لباشاغا السريع، رغم أنه لم يكن رجلها في ليبيا، في سياق العلاقات الوطيدة بين موسكو وقائد الجيش الليبي، المشير خليفة حفتر، الذي يبدي تأييده لرئيس الحكومة المنتخبة من قبل البرلمان، في وقت تحافظ روسيا على شراكتها طويلة الأمد مع الجيش الوطني الليبي[11]. بالنسبة للاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه، فتبدو أقل حماسا في الوقت الحالي، لاستضافة المشاورات بين الفرقاء الليبيين، وتكتفي بدفع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى تعيين ممثل خاص جديد وتشجيع الفرقاء على التوافق، عكس ما كان عليه الحال في السنوات الأخيرة، حيث شهدت العواصم الأوروبية عدة مؤتمرات ليبية، خاصة برلين وباريس. قد يكون مرد هذا الفتور كما يلي: أولا: انشغال ألمانيا وفرنسا، مؤخرا بالاستحقاقات الانتخابية[12] في البلدين. ثانيا: سيطرة الأزمة الأوكرانية على دبلوماسية البلدين في الآونة الأخيرة. لكن دول الاتحاد الأوروبي، لن تستمر في إدارة ظهرها للأزمة الليبية بشكل كامل، إذ تبقى هذه الدولة الإفريقية الخاصرة الرخوة للقارة الأوروبية، كما أن العواصم الأوروبية لا تخفي خشيتها من أن المواجهة المتزايدة مع روسيا قد تدفع موسكو إلى استخدام ليبيا ساحة للصراع، إضافة إلى تهديد الهجرة والإرهاب للساحل الجنوبي لحلف شمال الأطلسي[13]، وهما المشكلتان اللتان تحتمان على أوروبا دائما التنسيق مع شريك ليبي فعال لتأمين الحدود الأوروبية. تسير الولايات المتحدة، على نفس منوال أوروبا، في الانشغال عن الأزمة الليبية، رغم النشاط القوي لسفير واشنطن في ليبيا، والمبعوثة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفاني ويليامز، وهي أمريكية الجنسية، ومفروضة بطريقة أو بأخرى من طرف الإدارة الأمريكية، في ظل عجز مجلس الأمن عن تعيين مبعوث خاص جديد لتعويض السلوفاكي يان كوبيتش الذي قدم استقالته في نوفمبر/ تشرين الثاني، [14]2021، ولم يعوض بسبب خلاف موسكو وواشنطن على تسمية مبعوث توافقي. إقليميا، تتخذ دول الجوار الليبي، والدول الفاعلة في الملف، موقفا وسطا بين الحكومتين، فباستثناء الجزائر التي استقبلت عبد الحميد الدبيبة، يوم 18 إبريل/ نيسان [15]2022، في موقف صريح لدعم حكومته، رغم سحب البرلمان الليبي الثقة منها، تقف بقية الدول، بما في ذلك مصر ودولة الإمارات، وتونس، وحتى تركيا على مسافة متقاربة بين باشاغا والدبيبة. وتستقبل مصر مشاورات لجنتي البرلمان والمجلس الأعلى للدولة، بإشراف الأمم المتحدة، فيما استقبلت الإمارات الدبيبة الذي زار أبوظبي للتعزية في وفاة الرئيس الراحل الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان[16]طيب الله ثراه، وبدوره عزى باشاغا، القيادة الإماراتية في مصابها[17].
ولا تشذ تركيا عن هذه القاعدة، فلا تزال تتعامل مع الحكومتين، على قدم المساواة، واستقبلت فتحي باشاغا[18]، عقب تسميته رئيسا للوزراء من قبل مجلس النواب، فيما لم تغلق قنوات الاتصال مع حكومة الدبيبة. جدير بالذكر هنا أن التقارب الإماراتي التركي، وكذلك فتح قنوات الحوار بين القاهرة وأنقرة، أسهم في خفض الاستقطاب بين الأطراف الليبية، وهو مُعطى مهم يفسر التعايش الحالي بين حكومتين بليبيا، وكبح جماح المسلحين للدخول في مواجهة عسكرية، إضافة إلى انشغال القوى العظمى بالأزمة الأوكرانية، ووضع القضية الليبية في الصف الثاني من رفوف الملفات الدولية لدى الأوروبيين والولايات المتحدة وروسيا. وبالفعل تعهدت تركيا والإمارات بتنحية خلافاتهما جانبا والعمل من أجل الاستقرار في ليبيا – مع أن البلدين يدعمان أطرافا متعارضة هناك- وهذا ما تقرر خلال اجتماع عُقد أواخر شهر مايو/ أيار 2022، بين وزيري خارجية البلدين الشيخ عبد الله بن زايد، ومولود جاويش أوغلو في أنقرة[19].
المحور الثالث- آفاق التسوية المنتظرة؟ مما سبق يتضح أن المجتمع الدولي، والإقليمي، وإن لم يلق بثقله في الملف الليبي حاليا، لاعتبارات مختلفة، إلا أنه لا يقف دون تسوية تنهي الأزمة في البلاد، وتقود إلى انتخابات توافقية، تكمل الاستحقاقات، وخرائط الطريق لبناء مؤسسات ديمقراطية، وأن الخلاف الداخلي، قابل للحل، ما لم يتطور إلى مرحلة المواجهة العسكرية، التي يصعب احتواء شرارتها إن انطلقت. لذلك فآفاق التسوية السياسية، لا تبدو مسدودة، على الأقل في الوقت الحالي، رغم الانقسام الحادّ، ووجود حكومتين، تدعي كل منهما الشرعية لنفسها، وتملك كلتاهما مصدرا وجيها لممارسة السلطة، سواء بالنسبة للدبيبة الذي يتمسك بشرعية انتخابه من ملتقى الحوار السياسي لمدة 18 شهرا، تنتهي في 24 يونيو/حزيران 2022، أو باشاغا، الذي ينال مصدر شرعيته من انتخاب مجلس النواب؛ الجهة الوحيدة المنتخبة في ليبيا. من هنا يبدو أن الآمال معقودة على خروج المشاورات في القاهرة، بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، بنتائج ملموسة، تقود إلى التوافق على “إطار دستوري توافقي وسليم يمكّن من إجراء انتخابات وطنية في أقرب الآجال عملياً”، على أن يستمر “الهدوء على الأرض في الظروف الحالية وتجنب كافة الأعمال والخطابات الاستفزازية”[20].
وينتظر المشاركون في هذه المشاورات جولة جديدة، في 11 يونيو/ حزيران 2022، ينتظر أن تحاول التوصل إلى حل القضايا العالقة في ترسيخ القاعدة الدستورية، بعد أن توصلت اللجنة المشتركة في الجولة الماضية إلى توافق مبدئي حول 137 مادة، ولم يتبق سوى قواعد قليلة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، حسب تعبير ستيفاني ويليامز، المبعوثة الخاصة للأمم المتحدة إلى ليبيا[21]. لكن، وحتى لو توصلت اللجنة المشتركة، مع الرعاية الأممية، فإن التسوية السياسية بين الفرقاء، لن تكون أمرا يسيرا، فليست هذه المرة الأولى التي يضغط فيها المجتمع الدولي والقوى الإقليمية من أجل الحل، وتكون الأجسام السياسية جزءا من المشكلة[22]، كما حدث مع حكومة الوفاق الوطني برئاسة السراج عام 2015 بعد الاتفاق السياسي الليبي بالصخيرات في المغرب؛ وحكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة عام 2021، المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي. لذلك يخشى على أي تسوية قادمة، من نفس المآل، عبر انتخاب حكومة جديدة، يُعهد إليها بتنظيم الانتخابات، وتفشل كسابقاتها، في تأدية المهمة، وتتمسك بالسلطة، كما حدث مع حكومة الوحدة الوطنية الأخيرة، لذلك يقع على عاتق المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، هذه المرة وضع أسس لتسوية جدية وشاملة، تأخذ في الاعتبار نقاء الشخصيات المختارة من الفساد المالي، مع التمتع بالنزاهة السياسية، والقدرات القيادية لفرض تنظيم الاستحقاقات السياسية المتأخرة 11 عاما. غير ذلك يجعل أي تسوية محل انتقاد، ولا تسهم في حل الأزمة السياسية بفاعلية، لا تتوخى فقط تحديد موعد انتخابات جديد، بل يقع على عاتقها اتخاذ خطوات صعبة وجريئة، بما في ذلك معالجة المشاكل الأساسية في قلب الأزمة[23]، وتذليل العقبات اللوجستية والقضائية، حتى يكون للعملية السياسية نفسها قيمة تعزز عوامل الثقة في الجهود الدولية والإقليمية، وحتى يصدق المواطنون أن الحل أضحى ممكنا، وليس ضربا من كسب الوقت، وضياع الزمن.
ويبرز الآن سيناريوهان على الأقل، للتسوية السياسية، في ظل الوضع القائم، أولهما التوافق في مشاورات القاهرة، بين مجلس النواب، والمجلس الأعلى للدولة، على قاعدة دستورية واضحة، لتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية، ضمن خارطة تعلنها الأمم المتحدة، وفي هذه الحالة ستكون العقبة في الحكومة التي تشرف على الاستحقاقات في ظل وجود حكومتين كلاهما تدعي الشرعية. أما السيناريو الثاني، فهو اعتراف أممي ودولي بحكومة جديدة بديلة للحكومتين الحاليتين، وتنازل الدبيبة عن السلطة، وقبول باشاغا بهذا الحل، للإشراف على انتخابات، اعتمادا على خارطة طريق جديدة، بجداول زمنية محددة، ترعاها الأمم المتحدة، وتقدم لها القوى الإقليمية والدولية ضمانات النجاح، عبر التخلي عن دعم أي طرف في المعادلة، وفي هذه الحالة، ستكون الحكومة الجديدة من التكنوقراط، حتى لا تتكرر نفس المشكلة التي عرقلت نجاح حكومة الوفاق الوطني والوحدة الوطنية، اللتين ترأسهما رجال سياسة. ولا يبدو تطبيق كلا السيناريوهين بعيد المنال، إذا توافرت الإرادة السياسية للحل بين الفرقاء، وواصلت الأمم المتحدة، والقوى الدولية والإقليمية ضغطهما، أو التزام الحياد بين الأطراف على الأصح، أو بعبارة أدق التوقف عن التشجيع على الانقسام. كما أنه من الضروري إدخال إصلاحات على قانون الانتخابات، تشمل شروط الترشح، خصوصا لمنصب رئيس البلاد، وكذلك تفعيل المحاكم القضائية، وتوفير الحماية والدعم، لحيادها، لكي تتجنب اللجنة العليا للانتخابات إعلان القوة القاهرة مجددا. المحور الرابع- خاتمة تتضمن خلاصات واستنتاجات توصلت الدراسة إلى خلاصات واستنتاجات، تشير إلى الوضع الحالي في الساحة الليبية، والظروف الدولية المحيطة، وآفاق التسوية السياسية، والعثرات المرتبطة بتنفيذها. أولا- الخلاصات: 1/ تبدو القوى العظمى مشغولة بالأزمة الأوكرانية، وتداعياتها الأمنية والاقتصادية، ما يجعل الملف الليبي في الصف الثاني من أولويات الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. 2/ تقارب بعض القوى الإقليمية الفاعلة في الملف الليبي، ينعكس إيجابيا، على قبول الأطراف لصيغة حل ينهي الأزمة، بعد أن انحسر الاستقطاب السياسي، الذي كان يشجع الفرقاء على اتخاذ سبل المواجهة، والاحتكام للسلاح. 3/ يقع على عاتق الأمم المتحدة، الآن اغتنام فرصة التقارب بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، للتوصل إلى إقرار القواعد الدستورية، للتعجيل بوضع خارطة جديدة للانتخابات، توفر لها الأرضية السياسية للتنفيذ.